لغة الخوف.. كيف غذّت السياسة والإعلام في بريطانيا العداء تجاه المهاجرين؟

لغة الخوف.. كيف غذّت السياسة والإعلام في بريطانيا العداء تجاه المهاجرين؟
الصحافة البريطانية ولغة الخطاب ضد المهاجرين

في شوارع لندن المضطربة صيف عام 2024، لم تكن اللافتات التي حملها مثيرو الشغب مجرد كلمات عابرة، بل كانت تجسيداً حيّاً للغة سائدة، تغلغلت بهدوء على مدار سنوات في نشرات الأخبار والمنصات البرلمانية، حتى تحولت من كلمات إلى شعارات، ومن شعارات إلى أفعال عنف ضد المهاجرين والأقليات.

تُظهر دراسة حديثة صادرة عن مركز أبحاث المساواة العرقية "راني ميد ترست" كيف أسهمت الخطابات العدائية الصادرة عن وسائل الإعلام والساسة البريطانيين في تشكيل ردود فعل معادية للمهاجرين، دفعت اليمين المتطرف ليشعر بشرعية مواقفه، بل وشجّعت بعضهم على النزول إلى الشوارع ليقوموا بأعمال عنف عنصرية.

تاريخياً، لم تكن الهجرة في بريطانيا محصنة من الخطاب الشعبوي، ففي السبعينيات، هتف سياسيون من أقصى اليمين بشعارات مثل "بريطانيا للبيض فقط"، في حين أنه في التسعينيات وأوائل الألفية صعدت حملات تحذر من "غزو المهاجرين".

تحليل لغوي يكشف المسكوت عنه

حلل باحثو المركز أكثر من 63 مليون كلمة نُشرت في 52,990 مقالاً إخبارياً و317 مناظرة برلمانية في مجلس العموم البريطاني حول الهجرة بين عام 2019 والانتخابات العامة في يوليو 2024، كانت النتائج مثيرة للقلق: أصبح وصف المهاجرين، ولا سيما ذوي البشرة الملونة، أكثر اقتراناً بكلمة “غير قانوني”، مقارنةً بالفترة بين 2010 و2014.

يشير التقرير إلى أنّ هذا التكرار رسّخ صورة نمطية للهجرة كونها فعلاً غير مشروع في جوهره، وأكّد أن الساسة ووسائل الإعلام تعاملا مع المهاجرين الملونين باعتبارهم آخرين، يُنظر إليهم بريبة وعداء، بدلاً من النظر إليهم على أنهم بشر يسعون للحياة الكريمة.

هذا ليس مجرد تفصيل لغوي، إذ تُظهر الدراسات النفسية أنّ الطريقة التي يُوصَف بها الأشخاص في الإعلام والسياسة تؤثر مباشرة في طريقة إدراك الجمهور لهم، فتجعل التعاطف أو العداء رد فعل طبيعياً تجاه هؤلاء.

خطاب مزدوج.. لاجئ أبيض وآخر ملوَّن

التقرير رصد تبايناً حاداً في اللغة المستخدمة تجاه اللاجئين الأوكرانيين مقارنةً باللاجئين من مناطق أخرى، في المناقشات البرلمانية، ارتبط الأوكرانيون بمفردات إنسانية مثل "شجاعة" و"مجتمع" و"ضيف"، في حين استُخدمت مفردات مثل "غير قانوني" و"تقليص" و"معالجة" عند الحديث عن المهاجرين القادمين من إفريقيا وآسيا.

يؤكد ذلك أنّ صورة المهاجر ليست مجرد واقع، بل تُصنع من خلال الكلمات، فبينما يُصوَّر اللاجئ الأبيض ضيفاً مرحباً به، ويُصوَّر اللاجئ الملوَّن عبئاً يجب التخلص منه، تتشكّل في وعي الجمهور مسوغات للتمييز.

من البيئة العدائية إلى الشوارع

يربط التقرير بين هذه اللغة وسياسات البيئة العدائية في بريطانيا التي اعتمدتها الحكومات منذ عام 2014، والتي ركزت على التضييق على حياة المهاجرين عبر إجراءات إدارية صارمة، وتوسيع نطاق مراقبتهم وتبادل بياناتهم مع السلطات المختلفة.

هذه السياسات، بحسب التقرير، خلقت مناخاً يجعل التنمر العنصري والمطالبة بطرد المهاجرين أمراً مقبولاً، بل مشروع في نظر البعض، والشعار السياسي "أوقفوا القوارب"، الذي استخدمه سياسيون بارزون في الحكومة، لم يبقَ حبيس البرلمان أو عناوين الصحف، بل انتقل إلى لافتات مثيري الشغب في أحداث العنف ضد مراكز إيواء المهاجرين في صيف 2024.

هكذا تحولت كلمات صيغت في مكاتب السياسة والإعلام إلى شعارات على الحائط وأصوات في الشارع، لتؤدي دوراً مركزياً في إنتاج العنف.

أرقام تكشف فداحة الأزمة

وفق إحصاءات وزارة الداخلية البريطانية، وصل عدد محاولات عبور المانش في قوارب صغيرة عام 2023 إلى أكثر من 45 ألف محاولة، وهو رقم قياسي، في حين قُدّر عدد الأشخاص الذين وصلوا بطرق غير نظامية خلال عامي 2023–2024 بنحو 80 ألفاً.

لكن اللافت أن هذه الأرقام تُمثل أقل من 0.1% من سكان المملكة المتحدة البالغ عددهم نحو 67 مليون نسمة، ورغم ضآلة الرقم مقارنةً بالتأثير الإعلامي الضخم، فإن الخطاب العدائي رسم صورة مضخمة للهجرة على أنها تهديد وجودي.

الأحداث الأخيرة في لندن

بعد حادث الهجوم في ساوثبورت في أغسطس 2024، شهدت العاصمة البريطانية اضطرابات واحتجاجات عنيفة ضد مراكز استقبال المهاجرين، هتف المشاركون شعارات حملت كلمات سمعوها مراراً في نشرات الأخبار والخطب السياسية: "أوقفوا القوارب"، "غير قانونيين"، "تهديد لمجتمعنا".

ولم تكد تمر سوى أيام قليلة منذ بداية هذا الأسبوع حتى شهدت لندن وعدة مدن بريطانية موجة احتجاجات عنيفة ضد وجود مراكز استقبال المهاجرين، وذلك في أعقاب سلسلة شائعات انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي تتهم طالبي اللجوء بتهديد القيم البريطانية والسلامة العامة.

وفي المشاهد التي وثقتها كاميرات المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، بدا جلياً أن هذه الاحتجاجات لم تكن مجرد تعبير عن الرأي، بل حملت في طياتها اعتداءات لفظية وجسدية ضد أفراد ينتمون لأقليات عرقية، حتى لو لم يكونوا مهاجرين بأنفسهم، وهو ما يعكس بوضوح كيف تتحول الكلمات –حين تُكرَّر وتُضخم بلا نقد– إلى أفعال تمس حياة الناس بشكل مباشر.

تشير منظمات مثل "العفو الدولية- أمنستي" و"هيومن رايتس ووتش في بياناتها الصادرة هذا الأسبوع إلى أنّ هذه الاحتجاجات تعبّر عن أزمة أعمق من مجرد خلاف حول السياسات؛ أزمة في الخطاب العام نفسه، الذي يُشجّع ضمنياً على النظر إلى البشر باعتبارهم غير قانونيين قبل أن يُنظر إليهم على أنهم أشخاص لهم قصصهم وظروفهم وإنسانيتهم.

وبهذا المعنى، تتحوّل احتجاجات الأسبوع الحالي إلى نموذج حيّ وخطِر يبرهن أن خطاب العداء لا يبقى حبيس الورق والشاشات، بل يجد صداه في الشارع، ويُهدّد مباشرة التماسك المجتمعي الذي تقول الحكومة إنها تسعى لترميمه.

هنا، يُعيد الباحثون التأكيد على أن العنف لم يولد فجأة بل وجد تربة خصبة نمت فيها لغة تغذي الخوف من الآخر، وتمنح العنصريين غطاءً سياسياً وإعلامياً.

منظمات حقوقية تدق ناقوس الخطر

انتقدت منظمات مثل "العفو الدولية - أمنستي" و"هيومن رايتس ووتش" السياسات البريطانية الأخيرة، محذرة من أن الخطاب العدائي لا يُهدد فقط حياة المهاجرين، بل أيضاً قيم العدالة والمساواة في المجتمع البريطاني نفسه.

كما دعت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين الحكومة البريطانية إلى تبني خطاب يركز على إنسانية المهاجرين، محذرة من أن سياسات الردع تسهم في زيادة الأخطار بدلاً من معالجتها.

مبادرات في مواجهة موجة الكراهية

بعد أعمال العنف في أغسطس 2024، أعلنت وزارة الإسكان والمجتمعات والحكم المحلي عن استثمار 1.5 مليار جنيه إسترليني في الخدمات المجتمعية بـ75 منطقة، وأشارت إلى تشكيل فرقة عمل لتطوير استراتيجية وطنية للتماسك المجتمعي.

لكنّ محللين يرون أن هذه الخطوات قد لا تكون كافية دون مراجعة جذرية للخطاب السائد في الإعلام والسياسة، لأن القوانين وحدها لا تكفي لكسر حلقة الكراهية التي تغذيها الكلمات.

تكشف تجربة بريطانيا في السنوات الأخيرة أن الكلمات ليست محايدة، فهي تُعيد تشكيل الواقع الاجتماعي وتحدد من يُرى إنساناً ومن يُختزل في صفة «غير قانوني».

ففي مجتمع متعدد الثقافات كبريطانيا، تكتسب اللغة أهمية مضاعفة، إذ قد تُبنى بها جسور التفاهم والتضامن، أو تُرفع بها جدران الخوف والكراهية.

وفي النهاية، يذكّر التقرير أن الهجرة ليست مجرد قضية أرقام وسياسات؛ بل قضية إنسانية في جوهرها، يحسمها خطاب عام يُقر بإنسانية كل فرد، بغض النظر عن لونه أو أصله، أو يُنكرها فيؤدي إلى عنف آخر في الشارع.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية